فصل: المسألة الرابعة: قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضًا بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول، وأيضًا، فذلك المني لما وقع في رحم الأم، فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر، ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة، ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها، وأيضًا فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبدًا في طول العمر تكون في التحلل، ولولا ذلك لما حصل الجوع، ولما حصلت الحاجة إلى الغذاء، مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ، هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه.
ثم انفصل، وكان طفلًا ثم شابًا، فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل، وأن الإنسان هو هو بعينه.
فوجب القطع بأن الإنسان، إما أن يكون جوهرًا مفارقًا مجردًا، وإما أن يكون جسمًا نورانيًا لطيفًا باقيًا مع تحلل هذا البدن، فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى، ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول، فثبت أن القول بالمعاد صدق.
الحجة الحادية عشر: ما ذكره الله تعالى في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} [يس: 77] واعلم أن قوله سبحانه: {خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} [يس: 77] إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان، والذي يقويه قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم، ثم الدم ينقلب نطفة، فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية.
ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر، وهو قوله تعالى: {قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين: أحدهما: أن يقال: إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضًا ممكنًا.
والثاني: أن يقال: إن ما هو أعظم منه وأعلى حالًا منه، فهو أيضًا ممكن.
ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولًا فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] ثم فيه دقيقة وهي أن قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى كمال العلم.
ومنكرو الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين، لأنهم تارة يقولون: إنه تعالى موجب بالذات، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالمًا بالجزئيات، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين، لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وتقريره من وجهين: الأول: أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة، والتراب بارد يابس، فحصلت المضادة بينهما.
إلا أنا نقول: الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية في جرم التراب؟ الثاني: قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب، فكيف يمكنكم الامتناع عن كونه قادرًا على الحشر والنشر؟ ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُه إذا أراد شيئًا أن يقول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم، والدليل عليه أنه خلق الأب الأول، لا عن أب سابق عليه، فدل ذلك على كونه سبحانه غنيًا في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات.
ثم قال سبحانه: {فسبحان الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين، ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين، وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها، وهي قوله سبحانه: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط}.
الحجة الثانية عشر: دلت الدلائل على أن العالم محدث ولابد له من محدث قادر، ويجب أن يكون عالمًا، لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم، ويجب أن يكون غنيًا عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال، فثبت أن لهذا العالم إلهًا قادرًا عالمًا غنيًا، ثم لما تأملنا فقلنا: هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى، ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته، ويأكلوا نعمته، ويعبدوا الجبت والطاغوت، ويجعلوا له أندادًا وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده؟ فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة.
القريب من العبث، فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمرًا ونهيًا، ثم تأملنا فقلنا: هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد؟ فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب، ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي، ولم يحصل المقصود.
فثبت أنه لابد من وعد ووعيد، ثم تأملنا فقلنا: هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب، ولا بوعيده لأهل العقاب: فقلنا: إن ذلك لا يجوز، لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده، وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد، فعلمنا أنه لابد من تحقيق الثواب والعقاب، ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فهذه مقدمات يتعلق بعضها ببعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها، ومتى فسد بعضها فسد كلها، فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم، ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني، ودل ذلك على وجود الأمر والنهي، ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب، ودل ذلك على وجوب الحشر.
فإن لم يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية.
فثبت أنه لابد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت، ليصل المحسن إلى ثوابه والمسيء إلى عقابه، فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد، وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي، وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية، وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم.
وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلهًا رحيمًا ناظرًا محسنًا إلى العباد.
أما الفريق الثاني: وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح، فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا: المعاد أمر جائز الوجود، والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه، فوجب القطع بصحته، أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة:
المقدمة الأولى: البحث عن حال القابل فنقول: الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق، فنقول: لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى، جائزًا كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزًا.
وهذا الكلام لا يختلف، سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد، أو قلنا: إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل، وأما إن كان الإنسان عبارة عن البدن، وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول: إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكنًا، فوجب أيضًا أن يكون في المرة الثانية ممكنًا، فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه.
وأما المقدمة الثانية: فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار.
لا علة موجبة، وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات.
وأما المقدمة الثالثة: فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات، فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختطلت بأجزاء التراب، والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالمًا بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض.
ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة، لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه.
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول: دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن، فوجب القطع بوقوعه، وإلا لزمنا تكذيبهم، وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم، فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد.

.المسألة الثالثة: في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر:

الشبهة الأولى: قالوا: لو بدلت هذه الدار بدار أخرى لكانت تلك الدار إما أن تكون مثل هذه الدار أو شرًا منها أو خيرًا منها، فإن كان الأول كان التبديل عبثًا، وإن كان شرًا منها كان هذا التبديل سفهًا، وإن كان خيرًا منها ففي أول الأمر هل كان قادرًا على خلق ذلك الأجود أو ما كان قادرًا عليه؟ فإن قدر عليه ثم تركه وفعل الأردأ كان ذلك سفهًا، وإن قلنا: إنه ما كان قادرًا ثم صار قادرًا عليه فقد انتقل من العجز إلى القدرة، أو من الجهل إلى الحكمة، وأن ذلك على خالق العالم محال.
والجواب: لم لا يجوز أن يقال تقديم هذه الدار على تلك الدار هو المصلحة، لأن الكمالات النفسانية الموجبة للسعادة الأخروية لا يمكن تحصيلها إلا في هذه الدار، ثم عند حصول هذه الكمالات كان البقاء في هذه الدار سببًا للفساد والحرمان عن الخيرات.
الشبهة الثانية: قالوا: حركات الأفلاك مستديرة، والمستدير لا ضد له، وما لا ضد له لا يقبل الفساد.
والجواب: أنا أبطلنا هذه الشبهة في الكتب الفلسفية، فلا حاجة إلى الإعادة.
والأصل في إبطال أمثال هذه الشبهات أن نقيم الدليل على أن أجرام الأفلاك مخلوقة، ومتى ثبت ذلك ثبت كونها قابلة للعدم والتفرق والتمزق.
ولهذا السر، فإنه تعالى في هذه السورة بدأ بالدلائل الدالة على حدوث الأفلاك، ثم أردفها بما يدل على صحة القول بالمعاد.
الشبهة الثالثة: الإنسان عبارة عن هذا البدن، وهو ليس عبارة عن هذه الأجزاء كيف كانت، لأن هذه الأجزاء كانت موجودة قبل حدوث هذا الإنسان، مع أنا نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان ما كان موجودًا، وأيضًا أنه إذا أحرق هذا الجسد، فإنه تبقى تلك الأجزاء البسيطة، ومعلوم أن مجموع تلك الأجزاء البسيطة من الأرض والماء والهواء والنار، ما كان عبارة عن هذا الإنسان العاقل الناطق، فثبت أن تلك الأجزاء إنما تكون هذا الإنسان بشرط وقوعها على تأليف مخصوص، ومزاج مخصوص، وصورة مخصوصة، فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصور والأعراض، وعود المعدوم محال.
وعلى هذا التقدير فإنه يمتنع عود بعض الأجزاء المعتبرة في حصول هذا الإنسان فوجب أن يمتنع عوده بعينه مرة أخرى.
والجواب: لا نسلم أن هذا الإنسان المعين عبارة عن هذا الجسد المشاهد، بل هو عبارة عن النفس.
سواء فسرنا النفس بأنه جوهر مفارق مجرد، أو قلنا إنه جسم لطيف مخصوص مشاكل لهذا الجسد مصون عن التغير، والله أعلم به.
الشبهة الرابعة: إذا قتل إنسان واغتذى به إنسان آخر.
فيلزم أن يقال تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال.
والجواب: هذه الشبهة أيضًا مبنية على أن الإنسان المعين عبارة عن مجموع هذا البدن، وقد بينا أنه باطل.
بل الحق أنه عبارة عن النفس سواء.
قلنا: النفس جوهر مجرد وأجسام لطيفة باقية مشاكلة للجسد، وهي التي سمتها المتكلمون بالأجزاء الأصلية.
وهذا آخر البحث العقلي عن مسألة المعاد.

.المسألة الرابعة: قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}:

فيه أبحاث:
البحث الأول: أن كلمة إلى لانتهاء الغاية، وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصًا بحيز وجهة، حتى يصح أن يقال: إليه مرجع الخلق.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنا إذا قلنا.
النفس جوهر مجرد، فالسؤال زائل.
الثاني: أن يكون المراد منه: أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه.
الثالث: أن يكون المراد: أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة.
البحث الثاني: ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس، لا عن البدن، ويدل أيضًا على أن النفس كانت موجودة قبل البدن.
أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء} [آل عمران: 169] فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت، والنص دال على أنه حي، فوجب أن تكون حقيقته شيئًا مغايرًا لهذا البدن الميت، وأيضًا قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن، فلأن قوله تعالى في هذه الآية: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} يدل على ما قلنا، لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك، ونظيره قوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً} [الفجر: 27، 28] وقوله: {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق} [الأنعام: 62].